وقد ذكر الشيخ في (ص116) حكاية يقول: فقد سئل سؤالاً؛ وهذا السؤال يبين لكم كيف أن الألفاظ تختلف اختلافاً كلياً عما نألفه أو نقرؤه، (فسئل عن رجل متصوف قال لإنسان -في كلام جرى بينهم-: فقراء الأسواق، فقال له الرجل: اليهودي والنصراني والمسلم في السوق، قال تعالى: (( وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ))[الإسراء:35]، فقال الصوفي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( الفقر إلى الله، والأولياء مفتقرون للخاتمة، والأشقياء تحت القضاء ).
فقال الصوفي للرجل: تعرف الفقر؟ فقال له: لا، قال الصوفي: الفقر هو الله، فأنكروا عليه هذا اللفظ، ثم في ثاني يوم قال رجل: أنت قلت: الفقر هو الله، فقال الصوفي: أنا قرأت في كتاب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( من رآني آمن بي) وأنا رأيت الفقر فآمنت به، والفقر هو الله.
فأجاب شيخ الإسلام رحمه الله: الحمد لله، أما الحديث فكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مع كونه كذباً مناقض للعقل والدين؛ فإنه ليس كل من رآه آمن به، بل قد رآه كثير مثل الكفار والمنافقين) إلى آخر ما ذكر.
ثم في (ص119) سئل الشيخ رحمه الله في هذه القضية فقيل له: (إن الفقير والغني لا يفضل أحدهما صاحبه إلا بالتقوى، فمن كان أتقى لله كان أفضل وأحب إلى الله تعالى، وإن الحديث الصحيح الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم: ( يدخل فقراء أمتي الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام ) هذا في حق ضعفاء المسلمين وصعاليكهم القائمين بفرائض الله تعالى، وليس مختصاً بمجرد ما عرف واشتهر في هذه الأعصار المتأخرة من السجّاد، والمرقعة، والعكّاز، والألفاظ المنمقة؛ بل هذه الهيئات المعتادة في هذه الأزمنة مخترعة مبتدعة، فهل الأمر على ما ذكر أم لا؟)
فهذا السائل فقيه، وقد وجد أن أناساً في أيامه -وهم الصوفية - يرتدون زياً معيناً، ويحملون السجادة، والماء ليتوضئوا به، ويحملون الثياب المرقعات، ولا يلبسون إلا المرقع من الثياب، ويأخذون العكازات، ويمشون هكذا في حالة وهيئة ورثة، ولا يتزودون بشيء غير ذلك، ولا يعملون في أي عمل من أعمال الدنيا، ويسمون أنفسهم: الفقراء، ثم يقولون: يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام، فرد عليهم السائل وقال: لا، ليس الأمر كذلك، فالمقصود بالفقراء هنا: ضعفاء المسلمين، وفقراؤهم الذين لا مال لهم، والذين يقومون بفرائض الله، وحق الله، وأما ما أحدثتم من البدع فهذا محدث مبتدع.